فصل: فَصْلٌ: رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ:

وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ: هُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ: اعْتَكَفَ وَعَكَفَ أَيْ: أَقَامَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أَيْ: لَنْ نَزَالَ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ عَلَى حَرَامٍ أَيْ: مُقِيمٌ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ: مُعْتَكِفًا وَعَاكِفًا.
وَإِذَا عُرِفَ فَنَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لَيْلًا وَلَا وَنَهَارًا إلَّا لِمَا لابد لَهُ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ لُبْثًا وَإِقَامَةً؛ فَالْخُرُوجُ يُضَادُّهُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُضَادُّهُ فَكَانَ إبْطَالًا لَهُ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذْ لابد مِنْهَا وَتَعَذَّرَ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْخُرُوجِ وَلِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ تَحْقِيقَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ إلَّا بِالْبَقَاءِ، وَلَا بَقَاءَ بِدُونِ الْقُوتِ عَادَةً ولابد لِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَجْرَى الْعَادَةِ فَكَانَ الْخُرُوجُ لَهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَوَسَائِلِهِ وَمَا كَانَ مِنْ وَسَائِلِ الشَّيْءِ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي حَالِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَكَذَا فِي الْخُرُوجِ فِي الْجُمُعَةِ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا كَمَا يُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُبْطِلًا لِاعْتِكَافِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ؛ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي الْأَصْلِ مُضَادٌّ لِلِاعْتِكَافِ وَمُنَافٍ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَرَارٌ وَإِقَامَةٌ وَالْخُرُوجُ انْتِقَالٌ وَزَوَالٌ؛ فَكَانَ مُبْطِلًا لَهُ إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمُعْتَكَفِ.
وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُبْطِلًا لِلِاعْتِكَافِ؛ لَمَا أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ لَيْسَتْ هِيَ عَلَيْهِ فَمَتَى أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي إبْطَالِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانَ نَذْرُهُ عَدَمًا فِي إبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ دُونَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُؤْذَنُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَالْخُرُوجَ يُبْطِلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يُبْطِلُهُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا وَقْتُ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَمِقْدَارُ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا.
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا أَنَّهَا أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: سِتَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا يَخْرُجُ حِينَ يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ وَبُعْدِهِ فَيَخْرُجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَرَى أَنَّهُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ إبَاحَةٌ لَهَا بِتَوَابِعِهَا، وَسُنَنَهَا مِنْ تَوَابِعِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فِيهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا يُنْتَقَضُ اعْتِكَافُهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَلِأَنَّ الْجَامِعَ لَمَّا صَلُحَ لِابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ؛ فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ، فَيُكْرَهُ لَهُ التَّحَوُّلُ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْمَامِ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ لَيْسَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ، بَلْ مِنْ الْفَضَائِلِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَاقِينَ بِهَا؛ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الِاعْتِكَافِ الَّذِي يَتَطَوَّعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا إذَا كَانَ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِوَجْهٍ مُبَاحٍ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِذَلِكَ قَصْدًا وَذَلِكَ جَائِزٌ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَى مَنْزِلِهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا.
فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ لِعُذْرٍ بِأَنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرُ السُّلْطَانِ فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كَمَا لَوْ خَرَجَ عَنْ اخْتِيَارٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَمْرًا لابد مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا.
فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَأَنِّيًا؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ؛ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ.
وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَشْيِ وَهَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ أَوْ كَثُرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.
وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ» وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ تَارِكًا مَا خَرَجَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ الصَّوْمِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ، وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ: اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ.
وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ اعْتِكَافًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جَاءَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هاهنا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ: الشُّرُوعُ فِيهِ مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ بِقَدْرِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فَمَا أَوْجَبَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَوْ جَامَعَ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قِيلَ: الْمُبَاشَرَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ؛ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ فِي الِاعْتِكَافِ؛ فَإِنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ لِمَكَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَسَاجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَتْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ؛ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ سَوَاءٌ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالنِّسْيَانُ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرٌ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ.
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْوُقُوعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كَانَ النِّسْيَانُ جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ عَيْنُ الْجِمَاعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ.
وَالْمُحَرَّمُ فِي بَابِ الصَّوْمِ هُوَ الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ، أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا؛ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ، وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي النَّهَارِ عَامِدًا؛ فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهُوَ مَا مُنِعَ عَنْهُ لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَالْفِقْهُ مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَكَذَا لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ أَنَّهُ إنْ أَنْزَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ فِي بَابِ الصَّوْمِ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَيْهِ فَلَوْ لَمْ تَحْرُمْ؛ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، إنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ الْإِفْطَارُ أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا، وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كَانَتْ اعْتَكَفَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ عِبَادَتِهَا.
وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قِيَاسٌ، وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَكَذَا السُّكْرُ.
(وَلَنَا) أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَقْلِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَالْإِغْمَاءِ.
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافِهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنْ انْعِقَادِ الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَيَخْرُجَ فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى الْمَسْجِدِ.
وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ مَا بَدَا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ صَائِمًا وَيَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هُوَ كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ».
(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ: هَلَّا اشْتَرَيْت خَادِمًا؟ قَالَ: كُنْت مُعْتَكِفًا قَالَ: وَمَاذَا عَلَيْك لَوْ اشْتَرَيْت.
أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ يُبَاعُ فِيهَا وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} وقَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ؛ لَمُنِعَ مِنْ الِاعْتِكَافِ إذْ ذَلِكَ أَمْرٌ لابد مِنْهُ.
وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا فُحْشًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ.
فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فِيهِ مَأْثَمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى.
وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِذَا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَدَعَ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ.
أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى مَعَهُ أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامُهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الِاعْتِكَافَ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى وَإِذَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ يَقْضِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الرِّدَّةُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.
وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعِي فِيهِ صِفَةَ التَّتَابُعِ وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ.
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا؛ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى؛ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُقْتَضَى عَلَيْهِ الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ.
فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ؛ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.